الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{والله عنده حسن المآب} أي المرجع. وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا قال:«سبقت رحمتي غضبي» ثم بيّن أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا. والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهمًا على سبيل التقرير {قل أؤنبئكم بخير} أي بشيء هو خير {من ذلكم} الذي عددنا. ثم استأنف بيانه وتقريره فقال: {للذين اتقوا عند ربهم جنات} كما تقول: هل أدلكم على حبر خير من فلان؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود، فإن النعمة وإن عظمت، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس. ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال: {مطهرة} أي من الأقذار والمنفرات. وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ماهو فوق التمام فقال: {ورضوان من الله} ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلى، وكأن المولى وما يملكه للعبد، كنما أن العبد وما يملكه للمولى {ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 72] ويحتمل أن يكون اللام في قوله: {للذين اتقوا} متعلقًا بخير. واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به ويرتفع {جنات} على الخبر أي هو جنات ويعضده قراءة بعضهم {جنات} بالجر على البدل من {خير} وذلك أن اللام في هذه القراءة يتعين أن يكون متعلقًا بخير. وقوله: {عند ربهم} يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله: {للذين} أي ثبت لهم عند ربهم. ويحتمل أن يكون صفة لخير، ويحتمل أن يكون من تمام قوله: {اتقوا} فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقيًا عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمنًا في علم الله {والله بصير بالعباد} عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعدّ لهم الجنات {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا} توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة. وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل: دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط، فإن العمل الصالح لو كان داخلًا فيه كما زعموا كان إدخاله في النار قبيحًا عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى، وضده واجب الوقوع، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح للمدح. ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع.وأيضا صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول. فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران. ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال: {الصابرين} أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد. وقف رجل على الشبلي فقال: أيّ صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله تعالى. فقال: لا. فقال: الصبر لله. فقال: لا. فقال: الصبر مع الله. قال: لا. قال: فأي شيء؟ قال: الصبر عن الله. فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه.{والصادقين} أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات.{والقانتين} والمقيمين على الطاعات والمواظبين عليها {والمنفقين} ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوبًا وندبًا {والمستغفرين بالأسحار} أي فيها. والسحر قبل طلوع الفجر. وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم. وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف. أما بيان ترتيب الأوصاف، فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف. ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] ثم المواظبة على سلوك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله: {والقانتين} ثم إن هاهنا أمرين يعينان على الطاعة: الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حصرة القدس والجلال وذلك قوله: {والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} فقوله: {والمنفقين} معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصلها التعظيم لأمر الله. اهـ.
|